Tuesday, June 19, 2012

قنديل أم هاشم

قنديل أم هاشم



My rating: 5 of 5 stars


الكتاب يستحق الخمس نجوم بجدارة .. لغة عربية تعدت مرحلة الجمال وأخذت تبهرني سطر تلو الآخر وصفحة تلو الأخرى .. سعيدة بكونها أول تجربة لي في عالم يحيى حقي 


القصص عجيبة في جذب القارئ وإدماجه في عالمها حتى اذا ما انتهت تجدك غير راضي على انتهائها بهذه السرعة ، دهشتني لغته العربية السليمة واحترافه الكتابة والتعبير والتشيبهات المتتالية والممتعة في ذات الوقت .. لم انزعج ابدا من التشبيه المستمر فكل تشبيه يجعلك تشعر بعبقرية الخيال واللغة والفن والفكرة .. الكتاب صغير نسيبا لكني قضيت في قرأته شهر كامل حتى اهضمه جيدا واستوعب جماله .. هناك جُمل بعينها تستحق القراءة مرة ومرة وفي كل مرة تجد طعم جديد جميل .. كل سطر يصلح ان يكون قول مأثور 

لم أخرج من الكتاب متعلقة بالقصص مثلما تعلقت بالكاتب وبإسلوبه السهل الممتنع ولغته الحية السلسلة ، تقرأ وكأنك تلميذ تدرس لغة وأدب وفن وتتعجب من شطارة المُعلم وقدرته الفذة على الكتابة ، حتى انك بالكاد تجد لفظ متكرر في القصة الواحدة فبحر اللغة عند يحيى حقي متجدد ولا ينضب أبدا ، يعطيك منه بكرم ولا يتوقف فتشرب انت لغة عذبة جديدة على اذنك ومختلفة 

قال يحيى حقي في هامش ( قنديل أم هاشم ) : مكثت أكثر من أسبوع أبحث عن الكلام الذي ينبغي أن ينطق به إسماعيل في هذا الموقف ، وقد أحسست أنه يجب ألا يزيد عن لفظ واحد ، إذ ليس من المعقول أن ينطق بجملة طويلة وهو في تلك الحال . وأردت أن يكون هذا اللفظ معبراً عن الأنين وعن الرغبة في البوح وفي الاستعطاف وفي تأكيد الإنتماء .. وبينما انا حائر في البحث عن الكلمة المناسبة إذ تذكرت نصاً كنت قرأته عن حياة الفيلسوف الألماني ( نيتشة ) وبقى منه في ذهني أنه حين أصيب بلوثة الجنون هبط من بيته الذي كان يقع فوق قمة جمل مرتفع وهو يصرخ: ( أنا .. أنا .. أنا ). عندئذ أدركت أن هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها ، لانها تجسد كل المعاني التي طلبتها ، خاصة وأن حرف النون فيه نغمة الأنين . ولعل الذي قادني إلى تذكر هذا النص أن إسماعيل في هذا الموقف كان هو الآخر قريبا من الجنون . وهكذا يتأكد اعتقادي بأن الذي يضفي على النص الأدبي قدراً من قيمته هو إشاراته الخفية إلى أعمال أدبية أخرى ممتازة . فكأن للأدب كياناً متكاملاً اشترك في تشييده كل من سبقونا ومن يعاصروننا من كبار الكتاب في كل اللغات . 

هكذا تجدك تتعلم فن الكتابة على أصوله قبل ان تستمتع بالقصة كقصة ، فهو أول كاتب اجده مشغولا في كتاباته بتعليم الجيل الجديد كيف يكتب ويبدع ، وهذا بديهي ومنطقي بالنسبة ليحيى حقي لانه ذكر في سيرته الذاتية ان الفنان الصادق هو الذي يشعر أن المعبد أو الهيكل الذي يعيش فيه يجب أن يستمر وأن يسلمه جيل إلى آخر. 

قنديل أم هاشم: بسيطة وراقية ، أعجبت بوصفه لحي السيدة زينب والمقام كما أعجبت بوصفه للقنديل عندما قال " كل نور يفيد اصطداما بين ظلام يجثم وضوء يدافع ، إلا هذا القنديل فإنه يضئ بغير صراع " ، وكلمته عن الحب: " إن المحب لا يقيس ولا يقارن وإذا دخلت المقارنة من الباب ، ولى الحب من النافذة " 

السلحفاة تطير: تعجبت من اسلوبها حيث ذكر الكاتب انه استخدم في كتابتها الشكل الدائري للقصة ، فانتهت القصة حيث بدأت !!

كنا ثلاثة أيتام : خفيفة تتعجب من الأقدار وأفعالها .. يمكن تلخيصها في المثل القائل: راح يصطاد .. صادوه


القديس لا يحار: أعجبني فيها حيرة الانسان بين التقرب لله والإنقطاع لعبادته وبين غريزته الإنسانية وإستمتاعه بالحياة

بيني وبينك: قصيدة نثرية للحبيب الضائع .. لم تعلق في ذهني لاني غير متعودة على القصائد النثرية بشكل عام

كن .. كان: ما اجملها وأروعها؟ نموذج لنسيج أدبي مصنوع بإحكام وإتقان ، الفكرة والوصف والخيال والحبكة والمتعة والفائدة ... غاية الإبداع والجمال حقاً ، ان تصنع فن جميل ومفيد في ذات الوقت .. احتفظت من القصة بهذا الوصف : فوقه سماء القاهرة تكاد الروح ترشفها من فرح صفائها. تناثرت فيها نجوم لامعة وأخرى خابية ، لا يكاد النظر يستوعبها في مواقعها ، حتى تجد الأذن أن هذه النجوم المبعثرة مختلفات الألوان ينظمها نغم حلو جميل . لكل لون منها نصيب في إيقاعه ، ولكنه نغم خاف تشعر به الأذن ولا تتبينه ، كأنما هي أيضا عين ترى ولا تسمع . 


View all my reviews

Monday, June 4, 2012

أصداء السيرة الذاتية


My rating: 5 of 5 stars
يصعب التعامل مع كتاب أصداء السيرة الذاتية للأديب العالمي نجيب محفوظ كباقي مؤلفاته ، ذلك لأنه أقرب للقطع الأدبية المركزة والمقتصدة والمكثقة تعتمد على الرمزية ، كانت تنشر له بشكل إسبوعي فى جريدة الأهرام عام 1994 تحت عنوان أصداء السيرة الذاتية ثم تم جمعها فى كتاب واحد فيما بعد

عندما تقرأ هذا الكتاب البديع تشعر أنك فى حضرة روح رجل تقدم به العمر فزينت الأيام قلبه بالحكمة وعقله بالرجاحة وقلمه بالجمال ، رجل ذاب في الدنيا وذابت الدنيا فيه ، تشعر أنك تلمس بقلبك ملمس تجاعيد الوجه المهيب وروعة المعاني وسلاسة الأسلوب ، إنها ملخص التجربة وخلاصة الحياة وعصير الأيام وعصارة الحكمة لرجل يدرك ان ما هو آت من العمر لن يكون أطول مما مضى منه ، وأن المستقبل لن يكون بقوة الماضي ، فيهديك جرعة مكثفة من أيام حياته الحافلة

إنها تجليات الأديب الكبير صاحب القلم الثري الموهوب الذي كتب وأبدع وعُرف ونال شهرة واسعة ، هذه الأصداء مثل أمواج المشاعر العذبة التي تجعلك تفكر بقلبك وتشعر بعقلك ، لتحملك هذه الأمواج فى ترنح عجيب بين الماضي والحاضر .. الخير والشر .. العدل والظلم .. الحب والكراهية .. النور والظلام .. الأُنس والفقد .. البداية و النهاية .. الحياة والموت .. الدنيا والآخرة .

لا تعتبر “أصداء السيرة الذاتية ” سيرة ذاتية لنجيب محفوظ ، فقد رفض أن يكتب سيرته الذاتية مبرراً ذلك بقوله : “هناك عشرات المقابلات معي في مختلف وسائل الإعلام و لا حاجة توجد لكتابة سيرتي الذاتي” ، ولكننا نجد حياته موجودة ومختزلة فى كل لقطات الأصداء من خلال شخصية ” عبد ربه التائه ” التي ظهرت فى الثلث الأخير من الكتاب

ذلك الرجل الذي كان ينادي ” ولد تائه يا ولاد الحلال ” ولما سُئل عن أوصاف الولد المفقود قال : ” فقدته منذ أكثر من سبعين عاماً فغابت عني جميع أوصافه. فعُرف بعد ربه التائه . وكنا نلقاه فى الطريق أو المقهى أو الكهف ، وفي كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات ، فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى وأن يسمى كهفهم بالخمارة . ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعنى الوقت وأذن لي الفراغ ، وإن فى صحبته مسرة ، وفي كلامه متعة ، وإن استعصى على العقل أحياناً. “

هكذا كان التعريف المناسب للشخصية الممثلة لذاته ، ثم يخرج لنا عبد ربه التائه بكلامه الحكيم الممتع والمفيد على مدار الكتاب ، عن طريق حوار تخيلي بين الراوي والشيخ عبد ربه التائه، فتجده يحدثك تارة عن السياسة عندما يقول: “سألت الشيخ عبد ربه التائه : متى يصلح حال البلد؟ ، فأجاب : عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة “

ويحدثك عن الرحمة تارة أخرى قائلاً : “سألت الشيخ عبد ربه التائه: كيف لتلك الحوادث أن تقع فى عالم هو من صنع رحمن رحيم؟ .. فأجاب بهدوء : لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت ! ” ، ثم يحدثك عن الشكر قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: الحمد لله الذي أنقذنا وجوده من العبث فى الدنيا ومن الفناء فى الآخر”

ويحدثك عن الدنيا والآخرة قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: إذا أحببت الدنيا بصدق ، أحبتك الآخرة بجدارة ” ، ويحدثك عن معنى الحياة قائلاً: “قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة ، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء ، فالمعنى كامن فى الحركة” ، ثم يحدثك عن الموت قائلاً: ” عندما يلم الموت بالآخر ، يذكرنا بأننا مازلنا نمرح فى نعمة الحياة ” .

لا شك فى وجود غموض فى بعض الأصداء ، ولكنه غموض باعث على التفكر والتأمل والتدبر، كما قد تصيبك الحيرة عند قراءة هذه الأصداء ، فتارة تشعر أنك أمام نص فلسفي عقلاني مُحكم كُتب على يد أحد كبار الفلاسفة ، ثم ما تلبث أن تشعر أنك أمام نص صوفي روحاني صافي كُتب على يد أحد كبار أعلام الصوفية ، ذلك التأرجح بين العقل والروح أو المادة وما وراء المادة بإسلوب سلس بسيط يخلو تماماً من التعقيد ويقترب من النفس البشرية

ورغم أن هذه الأصداء لم تحظى بالشهرة التي حظيت بها أعماله الأخرى إلا إن النقاد وجدوا أن أصداء السيرة الذاتية تعتبر من أهم ما كتب وتمثل خلاصة فنه و تجربته و خبرته ، لذلك أدعوك صديقي خصوصاً ونحن نحتفي بئموية نجيب محفوظ أن تقراءة هذا الكتاب لتسمتع وتتعلم .. وتندهش!