Sunday, February 21, 2010

أموت وأفهم


كتاب ترددت كثيراً قبل قرائته ، هذا التردد الذي دائما ما تشعر به عندما تجد أن حجم الكتاب كبير أو إنك لم تقرأ أي عمل للكاتب من قبل ، مغامرة جديدة بلا شك ولها رهبتها ، ولكني سميت الله وبدأت قراءة الكتاب وليس فى ذهني سوى بعض التأكيدات على جمال الكتاب من زوجي وفكرة انه 340 صفحة لا تغيب عن بالي أبداً

دائماً لا اهتم بالمقدمة ، دائما ما احب ان ادخل فى صلب الموضوع مباشرة وبلا أي مقدامات ولكن الفضول أخذني لأقرأ مقدمة أنيس منصور لكتاب سناء البيسي – مع حفظ الألقاب طبعا – ويالها من مقدمة رائعة لكتاب أروع

المقدمة بعنوان: شئ لا تراه العصافير .. يقصد بذلك الشئ أسلوب سناء البيسي وهو ما ميزها عن كل من قرأت لهم بالفعل ، فتحدث وأفاض ووصف فى جمال أسلوبها وثرواتها اللغوية وموسيقاها السجعية وصورها البلاغية ، فعندها ثروة لغوية " تلضمها" فى كل شئ تراه وتلمسه ولذلك فكل شئ له صفة .. هذه الصفة: لون .. صوت .. حركة

وهنا أقتبس بعض ما جاء فى مقدمة الكتاب

ومشاعر سناء البيسي لا تلويها يميناً أو شمالاً وإنما هي مثل جراح ثابت اليد .. يقطع ويدمي ويرتب كل الأطراف والغدد التي قطعها ويضع لها أسماءها بدقة وهدوء ووعي ، وهي لا تعطف على مريض أو طبيب .. أو فقير أو مسكين فقط إنها تلتقط صورته الواضحة وتحتفظ بها .. إنها كاميرا .. ميكروسكوب .. تلسكوب .. تقترب من أشيائها بحساب وتسجل اللون والمسافة والحركة ولا تزال تدنو حتى ترتطم رأسك – أنت القارئ – باللوحة فتصحو على النهاية: حادثة .. رصاص .. شئ ينكسر .. إنتهت الحكاية ، أو أنك حين تنظر إلى اللوحة وتقترب مبهوراً بالصور والألوان يخرج لك من رواء اللوحة شئ مدبب .. يضربك فى أنفك فتتراجع وتتوقف وتكون هي قد أطفأت النور وأختفت .. هل ضحكت عليك؟ ، لا ولكنها هكذا .. فهي لا تريد أن تسليك ولا أن تبهرك .. فقط تعرض عليك حكايتها مع الفن أو فنها مع الحكاية وانت حر فى ان تقول: ياه!ا
او تقول: يوه!ا
أما هي فقد قالت وصورت وعزفت وجسدت ثم ذهبت!ا

بهذه المقدمة الشيقة دخلت عالمها السحري والآخاذ والممتع بكل المقاييس ، تشعر مع أول صفحاته أنك على اعتاب قصر ملكة الكلمات والبلاغة والتعبيرات الجمالية ، فنانة جدا .. حريفة كتابة

تنتقل بخفة آسرة بين المواضيع المختلفة فى كتابها " أموت وأفهم " فهي تارة المريضة الضعيفة صاحبة القلب الجديد بعد عملية شاقة بالخارج فى أول موضوعات الكتاب " قلبي الجديد" ، وتارة المرأة المصرية البسيطة التي لا تتأقلم ولا تتجاوب مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة مجسدة فى أشهر أشكالها وهو الموبيل من خلال موضوع " إيه ده يا محمول؟!


ومن المواضيع التي أعجبت بها بشدة موضوع بعنوان " تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" والذي عرضت فيه لمخطوط قديم يحمل العنوان نفسه من تأليف العلامة محمد بن خلف بن المزربان المتوفي عام 306هـ الذي نقل عنه الكثير أبو الفرج الأصفهاني فى كتابه الأغاني والذي كان حافزه الأول لتجميع هذا الكتاب قوله " يقولون الزمان به فساد .. وهم فسدوا ، وما فسد الزمان " ، حيث رأى المؤلف أن الكلاب لا تخون بينما البني آدم تسكنه الخيانة وضرب مثلا على ذلك برجل شاهد فى الصحراء رجلاً متمارضاً فأركبه فرسه وعليها سلاحه وطعامه وشرابه ، فما إن استقر المتمارض على الفرس حتى ضربها هارباً تاركأ رجل المروءة عرضة للموت والضياع ، وكيف نداه صاحب الفرس: لقد وهبتك الفرس وما عليها شرط ألا تُحدث بما صنعت معي .. فرجع الرجل وسأله: لماذا؟ .. فقال صاحب الفرس: حتى لا تضيع المروءة بين الناس !!ا


كما يؤكد ابن المزربان على تفضيل الكلاب على الكثير ممن لبس الثياب بمقطع يقول فيه: " أعزك الله .. أعلم أن الكلب لمن يقتنيه أشفق من الوالد على ولده ، والأخ الشقيق على أخيه وذلك إنه يحرس ربه ويحمي حريمه ، شاهداً وغائباً ونائما ويقظانا ، لا يقصر عن ذلك وإن جفوه ولا يخذلهم وإن خذلوه

ويروى أنه كان لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كلب يقال ليه " مسمار" ، وكانت إذا حجت خرجت به معها ، فليس يطمع أحد بالقرب من رحلها مه مسمار ، فإذا رجعت جعلته عند بني جديلة وأنفقت عليه ، فلما مات قيل لها: مات مسمار فبكت ، وقالت: فجعت بمسمار ..


إلى آخر ما يحتويه هذا الفصل من أحدايث ومواقف وأقوال مأثورة وأشعار عن الكلاب وفي وصفها وتفضيلها على كثير ممن لبس الثياب !ا



وموضوعها الآخر " لامؤاخذة " الذي تتحدث فيه عن الكلمات الدارجة فى العامية والصحيحة فى اللغة العربية كما قامت فى النهاية بقول فقرة جمعت معظم هذه الكلمات الصحيحة لغوياً والمتداولة عامياً .. الفقرة تقول

والله إني أريد أن أفطفط عن نفسي بأني لست ممن يبوس الأيدي أو يعيش الأونطة أو يعمل طناش على كل من يعلق الشخاشيخ أو يقول معلش أو يكون بمثابة النزناز، فلست بالست الصايعة ، ولا أنا من ترتدي الفستان المكسم أو الشفتشي أو تدق بالساجات .. لهذا فسوف أقوم بكسعمة كل من تسوًّل له نفسه أن يدلدل رجليه على الخلق أو يقربط على مرءوسيه ، فعقابه عندي الشكم والعترسة والخشم والدحدرة والهربدة والبرجلة والضرب على أم رأسه بالمداس .. ولامؤاخذة .. شوبش !ا

وكم أبهرتني قصتها القصيرة " حاجتها إليه" فى العذوبة والرقة والوداعة .. وأعجبت أيضاً بموضوعها القبل الأخير فى الكتاب بعنوان " أصحاب الكراسي" .. كما أعجبتني خاتمة هذه الوجبة المعرفية الممتعة بالموضوع الأخير " الحمد لله " الذي تحدثت فيه قيمة الرضا وقيمة الحمد وقيمة الشكر وقيمة الإيثار كقيم ومعاني للأسف أصبحت نادرة الوجود فى عصرنا الحالي ، وانتقدت إستيراد كل شئ من الخارج حتى القيم والمبادئ الغربية الرأسمالية التي تقوم على أنه لا حد للإشباع ، أي لا تقنع بشئ!ا

ظلت تبهرني برشاقة كلماتها وسلاسة أسلوبها خلال قراءتي لكتابها ذو الـ340 صفحة وكأنها أصرت أن تأخذني فى زمرة معجبيها ومحبين أسلوبها الأدبي وقد نجحت فى ذلك بالفعل فما أن وصلت حتى آخر صفحة فى الكتاب حتى تمنيت لو لم أصل إليها وأنهي هذا العزف المنفرد على أوتار القلب والعقل والروح

No comments: